فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القاسمي:

سورة التكوير:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{إِذَا الشَّمْسُ كورت} أي: أزيلت من مكانها، وُألقيت عن فلكها، ومُحي ضوؤها.
{وَإِذَا النُّجُومُ انكدرت} أي: تنثرت وانقضّت.
{وَإِذَا الْجِبَالُ سيرت} أي: رفعت عن وجه الأرض ونُسفت، من أثر الرجفة والزلزال الذي قطع أوصالها.
{وَإِذَا الْعِشَارُ عطلت} أي: تُركت مهملة لا راعي لها ولا طالب. والعشار جمع عُشَرَاءَ وهي الناقة التي أتى على حملها عشرة أشهر؛ وخصها لأنها أنفس أموالهم، أي: فإذا هذه الحوامل التي يتنافس فيها أهلها أهملت، فتركت من شدة الهول النازل بهم، فكيف بغيرها؟!
{وَإِذَا الوحوش حشرت} أي: جمعت من كل جانب واختلطت، لِما دهم أوكارها ومكامِنها من الزلزال والتخريب، فتخرج هائمة مذعورة من أثر زلزال الأرض وتقطع أوصالها.
{وَإِذَا الْبِحَارُ سجرت} أي: ملئت بتفجير بعضها إلى بعض، حتى تعود بحراً واحدًّا. من: سجر التنور، إذا ملأه بالحطب. كقوله: {وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ} وقيل: المعنى تأججت ناراً، قال القفال: يحتمل أن تكون جهنم في قعور البحار، فهي الآن غير مسجورة لقوام الدنيا، فإذا انتهت مدة الدنيا، أوصل الله تأثير تلك النيران إلى البحار، فصارت بالكلية مسجورة بسبب ذلك. وأوضحه الإمام بقوله: وقد يكون تسجيرها إضرامها ناراً. فإن ما في بطن الأرض من النار يظهر إذ ذاك بتشققها وتمزق طبقاتها العليا، أما الماء فيذهب عند ذلك بخاراً ولا يبقى في البحار إلا النار. أما كون باطن الأرض يحتوي على نار فقد ورد به بعض الأخبار.
ورد أن «البحر غطاء جهنم»، وإن لم يعرف في صحيحها. ولكن البحث العلمي أثبت ذلك. ويشهد عليه غليان البراكين وهي جبال النار. انتهى.
قال الرازي: واعلم أن هذه العلامات الستة يمكن وقوعها في أول زمان تخريب الدنيا، ويمكن وقوعها أيضاً بعد قيام القيامة، وليس في اللفظ ما يدل على أحد الاحتمالين، أما الستة الباقية فإنها مختصة بالقيامة. انتهى.
{وَإِذَا النُّفُوسُ زوجت} أي: قرنت الأرواح بأجسادها، أو ضمت إلى أشكالها في الخير والشر، وصُنِّفَت أصنافاً ليحشر كل إلى من يجانسه من السعداء والأشقياء.
{وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنبٍ قتلت} يعني البنات التي كانت طوائف العرب يقتلونهن، قال السيد المرتضى في (أماليه): الموءودة هي المقتولة صغيرة، وكانت العرب في الجاهلية تئد البنات، بأن يدفنوهنَّ أحياء، وهو قوله تعالى: {أَيُمْسِكُهُ على هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} [النحل: 59]، وقوله تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلاَدَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 140]، ويقال إنهم كانوا يفعلون ذلك لأمرين: أحدهما أنهم كانوا يقتلونهن خشية الإملاق.
قال الله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ} [الأنعام: 151].
قال المرتضى: وجدت أبا على الجبائيّ وغيرَه يقول: إنما قيل لها: موءودة؛ لأنها ثقلت بالتراب الذي طرح عليها حتى ماتت، وفي هذا بعض النظر؛ لأنهم يقولون من الموءودة وَأَدَ يَئِدُ وَأْداً، والفاعل وائِد، والفاعلة وائِدة، ومن الثقل يقولون: آدَني الشيء يؤودني، إذا أثقلني، أَوْداً. انتهى.
وإنما قال: بعض النظر؛ لأن القلب معهود في اللغة، فلا يبعد أن يكون وأد مقلوباً من آد.
وقال المرتضى: فإن سأل سائل: كيف يصح أن يسأل من لا ذنب له ولا عقل، فأي فائدة في سؤالها عن ذلك، وما وجه الحكمة فيه؟ والجواب من وجهين:
أحدهما: أن يكون المراد أن قاتلها طولب بالحجة في قتلها، وسئل عن قتله لها بأي ذنب كان، على سبيل التوبيخ والتعنيف وإقامة الحجة. فالقتَلة هاهنا هم المسؤولون على الحقيقة، لا المقتولة، وإنما المقتولة مسؤول عنها. ويجري هذا مجرى قولهم: سألت حقي، أي: طالبت به ومثله، على تعالى:
{وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 34] أي: مطالَباً به مسؤولاً عنه.
والوجه الآخر أن يكون السؤال توجه إليها على الحقيقة، على سبيل التوبيخ له، والتقريع له، والتنبيه له، على أنه لا حجة له في قتلها. ويجري هذا مجرى قوله تعالى لعيسى عليه السلام:
{أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ} [المائدة: 116] على طريق التوبيخ لقومه، وإقامة الحجة عليهم. فإن قيل على هذا الوجه: كيف يخاطب ويسأل من لا عقل له ولا فهم؟ فالجواب أن في الناس من زعم أن الغرض بهذا القول، إذا كان تبكيت الفاعل وتهجينه وإدخال الغم عليه في ذلك الوقت على سبيل العقاب، لم يمتنع أن يقع، وإن لم يكن من الموءودة فهم له؛ لأن الخطاب، وإن علق عليها وتوجه إليها، والغرض في الحقيقة به غيرها، قالوا: وهذا يجري مجرى من ضرب ظالم طفلاً من ولده فأقبل على ولده يقول له: ضربتَ ما ذنبك وبأي شيء استحلَّ هذا منك؟ فغرضه تبكيت الظالم لا خطاب الطفل. والأولى أن يقال في هذا: أن الأطفال، وإن كانوا من جهة العقول لا يجب في وصولهم إلى الأغراض المستحقة، أن يكونوا كاملي العقول، كما يجب مثل ذلك في الوصول إلى الثواب، فإن كان الخير متظاهراً والأمَّة متفقة على أنهم في الآخرة وعند دخولهم الجنان يكونون على أكمل الهيئات وأفضل الأحوال، وأن عقولهم تكون كاملة، فعلى هذا يحسن توجه الخطاب إلى الموءودة؛ لأنها تكون في تلك الحال ممن تفهم الخطاب وتعقله. وإن كان الغرض منه التبكيت للقاتل وإقامة الحجة عليه. انتهى.
قال الشهاب: والتبكيت قرره الطيبيّ، بأن المجنيّ عليه إذا سئل بمحضر الجاني ونسبت له الجناية دون الجاني، بعث ذلك الجاني على التفكّر في حاله وحال المجني عليه. فيرى براءة ساحته وأنه هو المستحق للعقاب والعذاب. وهذا استدراج على طريق التعريض، وهو أبلغ من التصريح. والمراد بالاستدراج سلوك طريق توصيل إلى المطلوب بسؤال غير المذنب ونسبة الذنب له؛ حتى يبين من صدر عنه ذلك، كما سئل عيسى دون الكفَرة، وهو فنٌّ من البديع بديع. انتهى.
وقال الزمخشريّ: وإنما قيل: {قتلت} بناءً على أن الكلام إخبار عنها.
تنبيه:
قال السيوطي في (الإكليل): في الآية تعظيم شأن الوأد، وهو دفن الأولاد أحياءً. وأخرج مسلم أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن العزل فقال: «الوأد الخفيّ. وهي: إذا الموءودة سئلت». انتهى.
وقد روى عبد الرزاق عن عمر بن الخطاب في هذه الآية قال: جاء قيس بن عاصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني وأدت بنات لي في الجاهلية.
قال: «أعتق عن كل واحدة منهن رقبة».
قال: يا رسول الله! إني صاحب إبل.
قال: «فانحر عن كل واحدة منهن بَدنَةَ».
وروى الدارمي في أوائل مسنده أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إنا كنا أهل جاهلية وعبادة أوثان، فكنا نقتل الأولاد، وكانت عندي ابنة لي، فلما أجابت، وكانت مسرورة بدعائي إذا دعوتها، فدعوتها يوماً فاتبعتني، فمررت حتى أتيتُ بئراً من أهلي غير بعيد فأخذت بيدها فرديتها في البئر، وكان آخر عهدي بها أن تقول: يا أبتاهُ يا أبتاهُ. فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وكفَ دمعُ عينيه. فقال له رجل من جلساء رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحزنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كفَّ فإنه يسأل عمَّا أهمه». ثم قال له: «أعد على حديثك». فأعاده. «فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وكف الدمع من عينيه على لحيته». ثم قال له: «إن الله قد وضع عن الجاهلية ما عملوا، فاستأنف عملك».
وكان للعرب تفنن في الوأد، فمنهم من إذا صارت ابنته سداسية يقول لأمها: طيّبيها وزيِّنيها حتى أذهب بها إلى أحمائها- وقد حفر لها بئراً في الصحراء- فيبلغ بها البئر فيقول لها: انظري فيها، ثم يدفعها من خلفها ويُهيل عليها التراب حتى تستوي البئر بالأرض.
ومنهم من كان إذا قربت امرأته من الوضع، حفر حفرة لتتمخّض على رأس الحفرة، فإذا ولدت بنتاً رمت بها في الحفرة، وإن ولدت ابناً حبسته. وقد اشتهر صعصعة بن ناجية بن عقال- جد الفرزدق بن غالب- بأنه كان ممن فدى الموءودات في الجاهلية، ونهى عن قتلهن.
قيل: إنه أحيا ألف موءودة، وقيل دون ذلك؛ وقد افتخر الفرزدق بهذا في قوله:
ومنا الذي منع الوائداتِ ** وأحيا الوئيدَ فَلَمْ يُوأَدِ

وفي قوله أيضاً:
أنا ابنُ عِقال وابن ليلى وغالبِ ** وفَكَّاكُ أغلال الأسير المكفَّرِ

وكان لنا شيخانِ ذو القبر منهما ** وشيخٌ أجار الناسَ من كل مَقْبَرِ

على حينِ لا تُحْيَى البناتُ وإذ ** همُ عُكُوف على الأصنام حولَ المدوَّرِ

أنا ابن الذي ردّ المنيةَ فضلُهُ وما ** حسبٌ دافعتُ عنهُ بِمُعْوِرِ

أَبي أَحَدُ الغَيْثَيْنَ صعصعةُ الذي ** متى تُخْلِفِ الجوزاءُ والنجمُ يُمْطِرِ

أجارَ بناتِ الوائدين ومن يُجِرْ ** على القبر، يعلمْ أنه غير مُخْفِرِ

وفارق ليلٍ من نساء أتت أبى ** تُعالج ريحاً ليلها غير مُقْمِرِ

فقالت أجر لي ما ولدتُ فإنني ** أتيتك من هَزْلى الحمولة مُقْتِرِ

رأى الأرض منها راحة فرمى بها ** إلى خُدَدٍ منها وفي شر مَحْفَرِ

فقال لها نامي فأنت بذمتي ** لبنتك جارٌ من أبيها القَنَوَّرِ

وروى أبو عبيدة: أن صعصعة هذا وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد بني تميم.
قال: وكان صعصعة منع الوأد في الجاهلية، فلم يدع تميماً تئدُ وهو يقدر على ذلك، فجاء الإسلام وقد فدى في بعض الروايات أربعمائة موءودة، وفي أخرى ثلاثمائة، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: بأبي أنت وأمي! أوصني. فقال: «أوصيك بأمك وأبيك، وأختك وأخيك، وأدانيك أدانيك»، فقال: زدني. فقال عليه الصلاة والسلام: «احفظ ما بين لحييك ورجليك». ثم قال عليه الصلاة والسلام: «ما من شيء بلغني عنك فعلته»؟ فقال: يا رسول الله! رأيت الناس يموجون على غير وجه ولم أدر أين الصواب، غير أني علمت أنهم ليسوا عليه، فرأيتهم يئدون بناتهم، فعرفت أن ربهم عزَّ وجل لم يأمرهم بذلك فلم أتركهم، ففديت ما قدرت عليه.
ويقال: إنه اجتمع جرير والفرزدق يوماً عند سليمان بن عبد الملك فافتخرا. فقال الفرزدق: أنا ابن محيي الموتى، فقال له سليمان: أنت ابن محيي الموتى؟ فقال: إن جدي أحيا الموءودة، وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} [المائدة: 32]، وقد أحيا جدي اثنتين وتسعين موءودة، فتبسم سليمان، وقال: إنك مع شعرك لفقيه. نقله المرتضى في (أماليه) وبالجملة، فكان الوأد عادة من أشنع العوائد في الجاهلية، مما يدل على نهاية القسوة وتمام الجفاء والغلظة.
قال الإمام: انظر إلى هذه القسوة وغلظ القلب وقتل البنات البريئات بغير ذنب سوى خوف الفقر والعار، كيف استبدلت بالرحمة والرأفة بعد أن خالط الإسلام قلوب العرب؟ فما أعظم نعمة الإسلام على الْإِنْسَاْنية بأسرها بمحوه هذه العادة القبيحة. انتهى.
ومن أثر نعمته أن صار أدباء الصدر الأول يَصوغون في مدحهن ما هو أبهى من عقود الجُمان، فمن ذلك قول معن بن أوس:
رأيتُ رجالاً يكرهون بناتِهِمْ ** وفيهن لا نُكْذَبْ نساء صوالحُ

وفيهن والأيام يعثرن بالفتى ** خوادِمُ لا يَمْلَلْنَهُ ونوائحُ

وقال العلويّ الجمانيّ في صديق له ولدت له بنت فسخطها، شعراً:
قالوا له ماذا رُزقْتَا ** فأصاخ ثُمَّتَ قال بنتا

وأجلّ من ولد النساء ** أبو البنات فلِمْ جزعتا

إن الذين تودّ من ** بين الخلائق ما استطعتا

نالوا بفضل البنتِ ما ** كَبَتُوا به الأعداء كبتاً

وحكي أن عمرو بن العاص دخل على معاوية وعنده ابنته، فقال: من هذه يا معاوية؟ فقال: هذه تفاحة القلب وريحانة العين وشمامة الأنف. فقال: أَمِطْها عنك.
قال: وَلِمَ؟ قال: لأنهن يلدن الأعداء، ويقرّبنَ البعداء، ويُورِثْنَ الشحناء، ويُثْرنَ البغضاءَ.
قال: لا تقل ذلك يا عمرو! فوالله ما مَرّض المرضى، ولا ندب الموتى، ولا أعان على الزمان، ولا أذهب جيش الأحزان مثلهن، وإنك لواجدٌ خالاً قد نفعه بنو أخته، وأباً قد رفعه نسل بنيه. فقال: يا معاوية! دخلت عليك وما على الأرض شيء أبغض إلى منهن، وإني لأخرج من عندك وما عليها شيء أحب إلىّ منهن.
وفي رقعة للصاحب بالتهنئة بالبنت: أهلاً وسهلاً بعقيلة النساء وأم الأبناء وجالبة الأصهار والأولاد الأطهار، والمبشرة بإخوة يتناسقون ونجباء يتلاحقون:
فلو كان النساء كمن وَجَدْنا ** لَفُضِّلَت النساءُ على الرجالِ

وما التأنيثُ لاسمِ الشمس ** عَيْبٌ وما التذكير فَخْرٌ للهلالِ

والله تعالى يعرفك البركة في مطلعها والسعادة بموقعها، فادّرع اغتباطاً واستأنف نشاطاً؛ فالدنيا مؤنثة والرجال يخدمونها والذكور يعبدونها، والأرض مؤنثة ومنها خلقت البرية وفيها كثرت الذرية، والسماء مؤنثة وقد زينت بالكواكب وحليت بالنجم الثاقب، والنفس مؤنثة وهي قوام الأبدان وملاك الحيوان، والحياة مؤنثة ولولاها لم تتصرف الأجسام ولا عرف الأنام، والجنة مؤنثة وبها وُعِد المتقون وفيها ينعم المرسلون؛ فهنيئاً لك هنيئاً بما أوتيتَ، وأوزعك الله شكرَ ما أعطيت.
ونسختُ رقعة لأبى الفرج الببغاء: اتصل بي خبر المولودة المسعودة كرَّم الله عرقها، وأنبتها نباتاً حسناً، وما كان من تغيُّرك عند اتصال الخبر وإنكارك ما اختاره الله لك في سابق القدر، وقد علمت أنهن أقرب من القلوب، وأن الله بدأ بهن في الترتيب فقال عز من قائل: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ} [الشورى: 49]، وما سماه الله تعالى هبة فهو بالشكر أولى وبحسن التقبُّل أحْرَى؛ فهنأك الله بورود الكريمة عليك، وثمرتها إعداد النسل الطيب لديك.
والنوادر في هذا لا تحصى، وكلها من بركة الإسلام وفضله.
وقوله تعالى: {وَإِذَا الصحف نشرت وَإِذَا السَّمَاء كُشِطَتْ وَإِذَا الجحيم سعرت وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ} [10- 14]
{وَإِذَا الصحف نشرت} قال ابن جرير: أي: صحف أعمال العباد نشرت لهم بعد أن كانت مطوية على ما فيها مكتوب من الحسنات والسيئات.
{وَإِذَا السَّمَاء كُشِطَتْ} أي: قلعت وأزيلت كما يكشط الإهاب عن الذبيحة، كقوله تعالى: {يوم تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} [إبراهيم: 48]،
{وَإِذَا الجحيم سعرت} أي: أوقد عليها فأحميت.
قال قتادة: سعرها غضب الله وخطايا بني آدم.
{وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ} أي: قربت للمتقين.
{عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ} أي: علمت كل نفس عند ذلك ما قدمت من خير فتصير به إلى الجنة، أو شر فتصير به إلى النار، أي: تبيّن لها عند ذلك ما كانت جاهلة به، وما الذي كان فيه صلاحها من غيره. و{عَلِمَتْ} جواب لجميع ما سبق من الشروط.
{فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ} أي: الرواجع من النجوم، من خنَس إذا رجع وتأخر.
قال الزمخشريّ: بينا ترى النجم في آخر البرج، إذ كرّ راجعاً إلى أوله.
{الجوار} جمع جارية، من الجري {الْكُنَّسِ} أي: الغيب التي تدخل في بروجها، في رأي العين، من: كنس الوحش إذا دخل كناسهُ وهو بيتهُ المتخذ من أغصان الشجر، فهو في الأصل مجاز بطريق التشبيه، ثم صار بالغلبة في الاستعمال حقيقة.
{وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} أي: أدبر ولم يبق إلا اليسير، وذلك وقت السحر.
{وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} أي: أقبل وتَبيّن، أو هبّ نسيمه اللطيف أو انجابت عنه غمة الليل وكربته؛ تشبيهاً بمن نفس عنه كربه.
قال الإمام: أقسم الله تعالى بهذه الدراريّ ليُنوه بشأنها من جهة ما في حركاتها من الدلائل على قدرة مصرّفها ومقدرها؛ وإرشاد تلك الحركات إلى ما في كونها من بديع الصنع وإحكام النظام، مع نعتها في القسم بما يبعدها عن مراتب الألوهية من الخنوس والكنوس؛ تقريعاً لمن خصها بالعبادة واتخذها من دونه أرباباً. وفي الليل إذا أدبر زوال تلك الغمة التي تغمر الأحياء بانسدال الظلمة بعد ما استعادت الأبدان نشاطها وانتعشت من فتورها. وفي الصبح إذا تنفس بشرى الأنفس بالحياة الجديدة في النهار الجديد، تنطلق فيه الإرادات إلى تحصيل الرغبات وسد الحاجات والاستدراك والاستعداد لما هو آت. انتهى.
وجواب القسم قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقول رَسُولٍ كَرِيمٍ} يعني روح القدس الذي ينفث في روعِه صلى الله عليه وسلم وهو جبريل عليه السلام. والضمير إما للبعث والجزاء، المفهوم من قوله تعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ} أو للمذكور وهو هذا أو للقرآن {ذِي قُوَّةٍ} أي: على تحمُّل أعباء الرسالة، وعلى كل ما يؤمر به، كما تقدم في قوله تعالى: {شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم: 5]، {عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} أي: صاحب مكانة وشرف ومنزلة لديه تعالى {مُطَاعٍ ثَمَّ} أي: في الملأ الأعلى {أَمِينٍ} أي: على وحيه تعالى ورسالته.
{وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ وَمَا هُوَ على الغيب بضنين وَمَا هُوَ بِقول شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} [22- 25]
{وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ} أي: ليس ممن يتكلم عن جنَّة ويهذي هذيان المجانين.
{بَلْ جَاء بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} [الصافات: 37]، وهذا نفي لما كان يبهتهُ به أعداؤه، صلى الله عليه وسلم؛ حسداً ولؤماً.
قال الشهاب: وفي قوله: {صَاحِبُكُم} تكذيب لهم بألطف وجه؛ إذ هو إيماء إلى أنه نشأ بين أظهركم من ابتداء أمره إلى الآن، فأنتم أعرف به وبأنه أتم الخلق عقلاً وأرجحُهم نبلاً وأكملهم وأصفاهم ذهناً، فلا يَسند له الجنون إلا من هو مركب من الحمق والجنون. ولله در البحتريّ في قوله:
إذا مَحَاسِني الَّلاتي أَدِلُّ بها ** كانت ذُنوبي فقل لي كَيْفَ أَعْتَذرُ

{وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} أي: ولقد رأى محمد صلى الله عليه وسلم جبريل بالأفق الأعلى، المظهر لما يرى فيه.
قال ابن كثير: والظاهر- والله أعلم- أن هذه السورة نزلت قبل ليلة الإسراء لأنه لم يذكر فيها إلا هذه الرؤية وهي الأولى، وأما الثانية وهي المذكورة في قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} [النجم 13- 15]، فتلك إنما ذكرت في سورة النجم، وقد نزلت بعد سورة الإسراء.
والقصد من بيان رؤيته لجبريل عليهما السلام متمثلاً له، هو التحقيق الموحي به، وأن أمره مبني على مشاهدة وعيان، لا على ظن وحسبان، وما سبيله كذلك فلا مدخل للريب فيه.
{وَمَا هُوَ على الغيب بضنين} أي: ببخيل.
قال مجاهد: ما يضن عليكم بما يعلم، أي: لا يبخل بالتعليم والتبليغ.
وقال الفراء: يأتيه غيبُ السماء، وهو شيء نفيس، فلا يبخل به عليكم.
وقال أبو على الفارسيّ: المعنى أنه يخبر بالغيب فيبينه ولا يكتمه، كما يكتم الكاهن ذلك ويمتنع من إعلامه حتى يأخذ عليه حلواناً. وقرئ: {بظنين} بالظاء، أي: ما هو بمهتم على ما يخبر به من الغيب.
قال القاشاني: لامتناع استيلاء شيطان الوهم وجنّ التخيل عليه، فيخلط كلامه ويمتزج المعنى القدسي بالوهميّ والخياليّ؛ لأن عقله صُفّي عن شوب الوهم. والمعنى أنه صادق فيما يخبر به من الوحي واليوم الآخر والجزاء، ليس من شأنه أن يُتهم فيه، كما قال هرقل لأبي سفيان: وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال فزعمت أن لا؛ فعرفتُ أنهُ لم يكن ليدَع الكذبَ على الناس ثم يذهب فيكذب على الله.
تنبيه:
قال ابن جرير: وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب، ما عليه خطوط مصاحف المسلمين متفقه وإن اختلفت قراءتهم به، وذلك {بضنين} بالضاد؛ لأن ذلك كله كذلك في خطوطها. فأولى التأويلين بالصواب في ذلك، تأويل من تأوّلهُ: وما محمد- على ما علَّمهُ الله من وحيه وتنزيله- ببخيل بتعليمكموه أيها الناس، بل هو حريص على أن تؤمنوا به وتتعلموه. انتهى.
واختار أبو عبيدة القراءة بالظاء لوجهين:
أحدهما: أن الكفار لم يبخلوه، وإنما اتهموهُ، فنفي التهمة أولى من نفي البخل.
وثانيهما: قوله: {على الغيب} ولو كان المراد البخل لقال: بالغيب؛ لأنه يقال: فلان ضنين بكذا، وقلما يقال: على كذا.
وقال الشهاب: قال في (النشر): هو بالضاد في جميع المصاحف، ولا ينافي هذا قول أبي عبيدة، أن الضاد والظاء في الخط القديم لا يختلفان إلا بزيادة رأس إحداهما على الأخرى، زيادة يسيرة، قد تشتبه. وهو كما قال. ويعرفه من قرأ الخط المسند. وليس فيه اتهام لنقلة المصاحف كما توهم؛ لأن ما نقلوه موافق للقراءة المتواترة. ولابد مما ذكره أبو عبيدة، لأنهم اشترطوا في القراءات موافقة الرسم العثمانيّ، ولولاه كانت قراءة الظاء مخالفة له. انتهى.
قال ابن كثير: وكلتا القراءتين متواترة ومعناها صحيح كما تقدم.
{وَمَا هُوَ بِقول شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} أي: من إلقاء الشيطان المطرود عن بلوغ هذا المقام، وهو نفي لقولهم: إنه كهانة.
{فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [26- 29]
{فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} أي: أي: مسلك تسلكون، وقد قامت عليكم الحجة؟ لا جَرَم أنكم تنحون الضلال بعد هذه المزاعم في الوحي ومبلغه، فمن سلك طرقها فقد بعد عن الصواب، بما لايضبط ولم يتقرّب إليه بوجه، كمن سلك طريقاً يبعدهُ عن سمت مقصد، فيقال: أين تذهب.
قال الزمخشريّ: استضلال لهم، كما يقال لتارك الجادّة اعتسافاً أو ذهاباً في بنيّات الطريق: أين تذهب؟ مُثلت حالهم بحاله، في تركهم الحق وعدولهم عنه إلى الباطل.
{إِنْ هُوَ} أي: القرآن المتلوّ عليكم {إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ} أي: تذكرة وعظة لهم.
قال الإمام: موعظة يتذكّرون بها ما غرز الله في طباعهم من الميل إلى الخير؛ وإنما أنساهم ذكره ما طرأ على طباعهم من ملكات السوء التي تحدثها أمراض الاجتماع. وقوله تعالى: {لِمَن شَاء مِنكُمْ أن يَسْتَقِيمَ} بدل من {الْعَالَمِين} أي: إنه ذكرى لمن أراد الاستقامة على الطريق الحق، بصرف إرادته وميله إليه والثبات عليه، أما من أعرض ونأى، فمن أين تنفعهُ الذكرى، وقد زادهُ الران عمى؟
وقوله تعالى: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} أي: وما تشاؤون شيئاً من فعالكم، إلا أن يشاء الله تمكينكم من مشيئتكم وإقداركم عليها والتخلية بينكم وبينها. وفائدة هذا الإخبار هو الإعلام بالافتقار إلى الله تعالى، وأنه لا قدرة للعبد على ما لم يقدرهُ الله عز وجل؛ فهو خاضع لسلطان مشيئته، مقهور تحت تدبيره وإرادته. اهـ.